فوزي عبد القادر موسى عبد دويمابي برتبة لواء
عدد الرسائل : 2478
| موضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن الأربعاء 20 أكتوبر - 23:14 | |
| ________________________________________ قوله تعالى : {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فيه سبع مسائل : الأولى : - قوله تعالى : { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} ثبت أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد ، وكانت عندهم العدة معلومة مقدرة ، وكان هذا في أول الإسلام برهة ، يطلق الرجل امرأته ما شاء من الطلاق ، فإذا كادت تحل من طلاقه راجعها ما شاء ، فقال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم : لا آويك ولا أدعك تحلين ، قالت : وكيف ؟ قال : أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك. فشكت المرأة ذلك إلى عائشة ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية بيانا لعدد الطلاق الذي للمرء فيه أن يرتجع دون تجديد مهر وولي ، ونسخ ما كانوا عليه. قال معناه عروة بن الزبير وقتادة وابن زيد وغيرهم. وقال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وغيرهم : "المراد بالآية التعريف بسنة الطلاق ، أي من طلق اثنتين فليتق الله في الثالثة ، فإما تركها غير مظلومة شيئا من حقها ، وإما أمسكها محسنا عشرتها ، والآية تتضمن هذين المعنيين". الثانية : - الطلاق هو حل العصمة المنعقدة بين الأزواج بألفاظ مخصوصة. والطلاق مباح بهذه الآية وبغيرها ، وبقوله عليه السلام في حديث ابن عمر : "فإن شاء أمسك وإن شاء طلق" وقد طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة ثم راجعها ، خرجه ابن ماجة. وأجمع العلماء على أن من طلق امرأته طاهرا في طهر لم يمسها فيه أنه مطلق للسنة ، وللعدة التي أمر الله تعالى بها ، وأن له الرجعة إذا كانت مدخولا بها قبل أن تنقضي عدتها ، فإذا انقضت فهو خاطب من الخطاب. فدل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أن الطلاق مباح غير محظور. قال ابن المنذر : وليس في المنع منه خبر يثبت. الثالثة : - روى الدار قطني حدثني أبو العباس محمد بن موسى بن علي الدولابي ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا إسماعيل بن عياش بن حميد بن مالك اللخمي عن مكحول عن معاذ بن جبل قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا معاذ ما خلق الله شيئا على وجه الأرض أحب إليه من العتاق ولا خلق الله تعالى شيئا على وجه الأرض أبغض إليه من الطلاق فإذا قال الرجل لمملوكه أنت حر إن شاء الله فهو حر (3/126) ________________________________________ ولا استثناء له وإذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله فله استثناؤه ولا طلاق عليه". حدثنا محمد بن موسى بن علي حدثنا حميد بن الربيع حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا إسماعيل بن عياش بإسناده نحوه. قال حميد قال لي يزيد بن هارون : وأي حديث لو كان حميد بن مالك اللخمي معروفا! قلت : هو جدي! قال يزيد : سررتني ، الآن صار حديثا!. قال ابن المنذر : وممن رأى الاستثناء في الطلاق طاوس وحماد والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. ولا يجوز الاستثناء في الطلاق في قول مالك والأوزاعي ، وهو قول الحسن وقتادة في الطلاق خاصة. قال : وبالقول الأول أقول. الرابعة : - قوله تعالى : {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} ابتداء ، والخبر أمثل أو أحسن ، ويصح أن يرتفع على خبر ابتداء محذوف ، أي فعليكم إمساك بمعروف ، أو فالواجب عليكم إمساك بما يعرف أنه الحق. ويجوز في غير القرآن {فإمساكا} على المصدر. ومعنى {بإحْسَانِ} أي لا يظلمها شيئا من حقها ، ولا يتعدى في قول. والإمساك : خلاف الإطلاق. والتسريح : إرسال الشيء ، ومنه تسريح الشعر ، ليخلص البعض من البعض. وسرح الماشية : أرسلها. والتسريح يحتمل لفظه معنيين : أحدهما : تركها حتى تتم العدة من الطلقة الثانية ، وتكون أملك لنفسها ، وهذا قول السدي والضحاك. والمعنى الآخر أن يطلقها ثالثة فيسرحها ، هذا قول مجاهد وعطاء وغيرهما ، وهو أصح لوجوه ثلاثة : أحدها : ما رواه الدارقطني عن أنس أن رجلا قال : يا رسول الله ، قال الله تعالى : {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} فلم صار ثلاثا ؟ قال : "إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان - في رواية - هي الثالثة". ذكره ابن المنذر. الثاني : إن التسريح من ألفاظ الطلاق ، ألا ترى أنه قد قرئ "إن عزموا السراح". الثالثة : أن فعل تفعيلا يعطي أنه أحدث فعلا مكررا على الطلقة الثانية ، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل ، قال أبو عمر : وأجمع العلماء على أن قوله تعالى : {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} هي الطلقة الثالثة بعد الطلقتين ، وإياها عنى بقوله تعالى : {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة : 230]. وأجمعوا على أن من طلق امرأته طلقة أو طلقتين فله (3/127) ________________________________________ مراجعتها ، فإن طلقها الثالثة لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، وكان هذا من محكم القرآن الذي لم يختلف في تأويله. وقد روي من أخبار العدول مثل ذلك أيضا : حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أرأيت قول الله تعالى : {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فأين الثالثة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ورواه الثوري وغيره عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين مثله. قلت : وذكر الكيا الطبري هذا الخبر وقال : إنه غير ثابت من جهة النقل ، ورجح قول الضحاك والسدي ، وأن الطلقة الثالثة إنما هي مذكورة في مساق الخطاب في قوله تعالى : {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة : 230]. فالثالثة مذكورة في صلب هذا الخطاب ، مفيدة للبينونة الموجبة للتحريم إلا بعد زوج ، فوجب حمل قوله : {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} على فائدة مجددة ، وهو وقوع البينونة بالاثنتين عند انقضاء العدة ، وعلى أن المقصود من الآية بيان عدد الطلاق الموجب للتحريم ، ونسخ ما كان جائزا من إيقاع الطلاق بلا عدد محصور ، فلو كان قوله : {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} هو الثالثة لما أبان عن المقصد في إيقاع التحريم بالثلاث ، إذ لو اقتصر عليه لما دل على وقوع البينونة المحرمة لها إلا بعد زوج ، وإنما علم التحريم بقوله تعالى : {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} . فوجب ألا يكون معنى قوله : {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} الثالثة ، ولو كان قوله : { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} بمعنى الثالثة كان قوله عقيب ذلك : {فَإِنْ طَلَّقَهَا } الرابعة ، لأن الفاء للتعقيب ، وقد اقتضى طلاقا مستقبلا بعد ما تقدم ذكره ، فثبت بذلك أن قوله تعالى : {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} هو تركها حتى تنقضي عدتها. الخامسة : - ترجم البخاري على هذه الآية "باب من أجاز الطلاق الثلاث بقوله تعالى : {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وهذا إشارة منه إلى أن هذا (3/128) ________________________________________ التعديد إنما هو فسحة لهم ، فمن ضيق على نفسه لزمه. قال علماؤنا : واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة ، وهو قول جمهور السلف ، وشذ طاوس وبعض أهل الظاهر إلى أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة يقع واحدة ، ويروى هذا عن محمد بن إسحاق والحجاج بن أرطأة. وقيل عنهما : لا يلزم منه شيء ، وهو قول مقاتل. ويحكى عن داود أنه قال لا يقع. والمشهور عن الحجاج بن أرطأة وجمهور السلف والأئمة أنه لازم واقع ثلاثا. ولا فرق بين أن يوقع ثلاثا مجتمعة في كلمة أو متفرقة في كلمات ، فأما من ذهب إلى أنه لا يلزم منه شيء فاحتج بدليل قوله تعالى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة : 228]. وهذا يعم كل مطلقة إلا ما خص منه ، وقد تقدم. وقال : {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} والثالثة {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}. ومن طلق ثلاثا في كلمة فلا يلزم ، إذ هو غير مذكور في القرآن. وأما من ذهب إلى أنه واقع واحدة فاستدل بأحاديث ثلاثة : أحدها : حديث ابن عباس من رواية طاوس وأبي الصهباء وعكرمة. وثانيها : حديث ابن عمر على رواية من روى "أنه طلق امرأته ثلاثا ، وأنه عليه السلام أمره برجعتها واحتسبت له واحدة". وثالثها : "أن ركانة طلق امرأته ثلاثا فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم برجعتها ، والرجعة تقتضي وقوع واحدة". والجواب عن الأحاديث ما ذكره الطحاوي أن سعيد بن جبير ومجاهدا وعطاء وعمرو بن دينار ومالك بن الحويرث ومحمد بن إياس بن البكير والنعمان بن أبي عياش رووا عن ابن عباس "فيمن طلق امرأته ثلاثا أنه قد عصى ربه وبانت منه امرأته ، ولا ينكحها إلا بعد زوج" ، وفيما رواه هؤلاء الأئمة عن ابن عباس مما يوافق الجماعة ما يدل على وهن رواية طاوس وغيره ، وما كان ابن عباس ليخالف الصحابة إلى رأي نفسه. قال ابن عبدالبر : ورواية طاوس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق والمشرق والمغرب ، وقد قيل : إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي ابن عباس. قال القاضي أبو الوليد الباجي : "وعندي أن الرواية عن ابن طاوس بذلك صحيحة ، فقد روى عنه الأئمة : معمر وابن جريج وغيرهما ، وابن طاوس إمام. والحديث الذي يشيرون إليه هو (3/129) ________________________________________ ما رواه ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر بن الخطاب طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر رضي الله عنه : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم". ومعنى الحديث أنهم كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس الآن ثلاث تطليقات ، ويدل على صحة هذا التأويل أن عمر قال : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فأنكر عليهم أن أحدثوا في الطلاق استعجال أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو كان حالهم ذلك في أول الإسلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله ، ولا عاب عليهم أنهم استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة. ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن ابن عباس من غير طريق أنه "أفتى بلزوم الطلاق الثلاث لمن أوقعها مجتمعة" ، فإن كان هذا معنى حديث ابن طاوس فهو الذي قلناه ، وإن حمل حديث ابن عباس على ما يتأول فيه من لا يعبأ بقوله فقد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع ، ودليلنا من جهة القياس أن هذا طلاق أوقعه من يملكه فوجب أن يلزمه ، أصل ذلك إذا أوقعه مفردا". قلت : ما تأوله الباجي هو الذي ذكر معناه الكيا الطبري عن علماء الحديث ، أي إنهم كانوا يطلقون طلقة واحدة هذا الذي يطلقون ثلاثا ، أي ما كانوا يطلقون في كل قرء طلقة ، وإنما كانوا يطلقون في جميع العدة واحدة إلى أن تبين وتنقضي العدة. وقال القاضي أبو محمد عبدالوهاب : معناه أن الناس كانوا يقتصرون على طلقة واحدة ، ثم أكثروا أيام عمر من إيقاع الثلاث. قال القاضي : وهذا هو الأشبه بقول الراوي : إن الناس في أيام عمر استعجلوا الثلاث فعجل عليهم ، معناه ألزمهم حكمها. وأما حديث ابن عمر فإن الدارقطني روى عن أحمد بن صبيح عن طريف بن ناصح عن معاوية بن عمار الدهني عن أبي الزبير قال : سألت ابن عمر عن رجل طلق امرأته ثلاثا وهي حائض ، فقال لي : أتعرف ابن عمر ؟ قلت : نعم ، قال : طلقت امرأتي ثلاثا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض (3/130) ________________________________________ فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السنة. فقال الدارقطني : كلهم من الشيعة ، والمحفوظ أن ابن عمر طلق امرأته واحدة في الحيض. قال عبيدالله : وكان تطليقه إياها في الحيض واحدة غير أنه خالف السنة. وكذلك قال صالح بن كيسان وموسى بن عقبة وإسماعيل بن أمية وليث بن سعد وابن أبي ذئب وابن جريج وجابر وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن نافع : أن ابن عمر طلق تطليقة واحدة. وكذا قال الزهري عن سالم عن أبيه ويونس بن جبير والشعبي والحسن. وأما حديث ركانة فقيل : إنه حديث مضطرب منقطع ، لا يستند من وجه يحتج به ، رواه أبو داود من حديث ابن جريج عن بعض بني أبي رافع ، وليس فيهم من يحتج به ، عن عكرمة عن ابن عباس. وقال فيه : إن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته ثلاثا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أرجعها". وقد رواه أيضا من طرق عن نافع بن عجير أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته البتة فاستحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد بها ؟ فحلف ما أراد إلا واحدة ، فردها إليه. فهذا اضطراب في الاسم والفعل ، ولا يحتج بشيء من مثل هذا. قلت : قد أخرج هذا الحديث من طرق الدارقطني في سننه ، قال في بعضها : "حدثنا محمد بن يحيى بن مرداس حدثنا أبو داود السجستاني حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي وآخرون قالوا : حدثنا محمد بن إدريس الشافعي حدثني عمي محمد بن علي بن شافع عن عبدالله بن علي بن السائب عن نافع بن عجير بن عبد يزيد : "أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة المزنية البتة ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال : والله ما أردت إلا واحدة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والله ما أردت إلا واحدة" ؟ فقال ركانة : والله ما أردت بها إلا واحدة ، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطلقها الثانية في زمان عمر بن الخطاب ، والثالثة في زمان عثمان" . قال أبو داود : هذا حديث صحيح". فالذي صح من حديث ركانة أنه طلق امرأته البتة لا ثلاثا ، وطلاق البتة قد اختلف فيه على ما يأتي بيانه فسقط الاحتجاج والحمد لله ، والله أعلم. وقال أبو عمر : (3/131) ________________________________________ رواية الشافعي لحديث ركانة عن عمه أتم ، وقد زاد زيادة لا تردها الأصول ، فوجب قبولها لثقة ناقليها ، والشافعي وعمه وجده أهل بيت ركانة ، كلهم من بني عبدالمطلب بن عبد مناف وهم أعلم بالقصة التي عرضت لهم. فصل : - ذكر أحمد بن محمد بن مغيث الطليطلي هذه المسألة في وثائقه فقال : الطلاق ، ينقسم على ضربين : طلاق سنة ، وطلاق بدعة. فطلاق السنة هو الواقع على الوجه الذي ندب الشرع إليه. وطلاق البدعة نقيضه ، وهو أن يطلقها في حيض أو نفاس أو ثلاثا في كلمه واحدة ، فإن فعل لزمه الطلاق. ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق ، كم يلزمه من الطلاق ، فقال علي بن أبي طالب وابن مسعود : "يلزمه طلقة واحدة" ، وقاله ابن عباس ، وقال : "قوله ثلاثا لا معنى له لأنه لم يطلق ثلاث مرات وإنما يجوز قوله في ثلاث إذا كان مخبرا عما مضى فيقول : طلقت ثلاثا فيكون مخبرا عن ثلاثة أفعال كانت منه في ثلاثة أوقات ، كرجل قال : قرأت أمس سورة كذا ثلاث مرات فذلك يصح ، ولو قرأها مره واحدة فقال : قرأتها ثلاث مرات كان كاذبا. وكذلك لو حلف بالله ثلاثا يردد الحلف كانت ثلاثة أيمان ، وأما لو حلف فقال : أحلف بالله ثلاثا لم يكن حلف إلا يمينا واحدة والطلاق مثله". وقال الزبير بن العوام وعبدالرحمن بن عوف. وروينا ذلك كله عن ابن وضاح ، وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع شيخ هدى ومحمد بن تقي بن مخلد ومحمد بن عبدالسلام الحسني فريد وقته وفقيه عصره وأصبغ بن الحباب وجماعة سواهم. وكان من حجة ابن عباس أن الله تعالى فرق في كتابه لفظ الطلاق فقال عز اسمه : { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} يريد أكثر الطلاق الذي يكون بعده الإمساك بالمعروف وهو الرجعة في العدة. ومعنى قوله : "أو تسريح بإحسان" يريد تركها بلا ارتجاع حتى تنقضي عدتها ، وفي ذلك إحسان إليها إن وقع ندم بينهما ، قال الله تعالى : {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق : 1] يريد الندم على الفرقة والرغبة في الرجعة ، وموقع الثلاث غير حسن ، لأن فيه ترك المندوحة التي وسع الله بها ونبه عليها ، فذكر الله سبحانه الطلاق مفرقا يدل على أنه إذا جمع أنه لفظ (3/132) ________________________________________ واحد ، وقد يخرج بقياس من غير ما مسألة من المدونة ما يدل على ذلك ، من ذلك قول الإنسان : مالي صدقة في المساكين أن الثلث يجزيه من ذلك. وفي الإشراف لابن المنذر : وكان سعيد بن جبير وطاوس وأبو الشعثاء وعطاء وعمرو بن دينار يقولون : من طلق البكر ثلاثا فهي واحدة. قلت : وربما اعتلوا فقالوا : غير المدخول بها لا عدة عليها ، فإذا قال : أنت طالق ثلاثا فقد بانت بنفس فراغه من قوله : أنت طالق ، فيرد "ثلاثا" عليها وهى بائن فلا يؤثر شيئا ، ولأن قوله : أنت طالق مستقل بنفسه ، فوجب ألا تقف البينونة في غير المدخول بها على ما يرد بعده ، أصله إذا قال : أنت طالق. السادسة : - استدل الشافعي بقوله تعالى : {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وقوله : {وَسَرِّحُوهُنَّ } [الأحزاب : 49] على أن هذا اللفظ من صريح الطلاق. وقد اختلف العلماء في هذا المعنى ، فذهب القاضي أبو محمد إلى أن الصريح ما تضمن لفظ الطلاق على أي وجه ، مثل أن يقول : أنت طالق ، أو أنت مطلقة ، أو قد طلقتك ، أو الطلاق له لازم ، وما عدا ذلك من ألفاظ الطلاق مما يستعمل فيه فهو كناية ، وبهذا قال أبو حنيفة. وقال القاضي أبو الحسن : صريح ألفاظ الطلاق كثيرة ، وبعضها أبين من بعض : الطلاق والسراح والفراق والحرام والخلية والبرية. وقال الشافعي : الصريح ثلاثة ألفاظ ، وهو ما ورد به القرآن من لفظ الطلاق والسراح والفراق ، قال الله تعالى : {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق : 2] وقال : {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وقال : {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق : 1]. قلت : وإذا تقرر هذا فالطلاق على ضربين : صريح وكناية ، فالصريح ما ذكرنا ، والكناية ما عداه ، والفرق بينهما أن الصريح لا يفتقر إلى نية ، بل بمجرد اللفظ يقع الطلاق ، والكناية تفتقر إلى نية ، والحجة لمن قال : إن الحرام والخلية والبرية من صريح الطلاق كثرة استعمالها في الطلاق حتى عرفت به ، فصارت بينة واضحة في إيقاع الطلاق ، كالغائط الذي وضع للمطمئن من الأرض ، ثم استعمل على وجه المجاز في إتيان قضاء الحاجة ، فكان فيه أبين (3/133) ________________________________________ وأظهر وأشهر منه فيما وضع له ، وكذلك في مسألتنا مثله. ثم إن عمر بن عبدالعزيز قد قال : "لو كان الطلاق ألفا ما أبقت البتة منه شيئا ، فمن قال : البتة ، فقد رمى الغاية القصوى" أخرجه مالك. وقد روى الدارقطني عن علي قال : "الخلية والبرية والبتة والبائن والحرام ثلاث ، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره". وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن البتة ثلاث ، من طريق فيه لين" ، خرجه الدارقطني. وسيأتي عند قوله تعالى : {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} [البقرة : 231] إن شاء الله تعالى. السابعة : - لم يختلف العلماء فيمن قال لامرأته : قد طلقتك ، إنه من صريح الطلاق في المدخول بها وغير المدخول بها ، فمن قال لامرأته : أنت طالق فهي واحدة إلا أن ينوي أكثر من ذلك. فإن نوى اثنتين أو ثلاثا لزمه ما نواه ، فإن لم ينو شيئا فهي واحدة تملك الرجعة. ولو قال : أنت طالق ، وقال : أردت من وثاق لم يقبل قوله ولزمه ، إلا أن يكون هناك ما يدل على صدقه. ومن ، قال : أنت طالق واحدة ، لا رجعة لي عليك فقوله : "لا رجعة لي عليك" باطل ، وله الرجعة لقوله واحدة ، لأن الواحدة لا تكون ثلاثا ، فإن نوى بقوله : "لا رجعة لي عليك" ثلاثا فهي ثلاث عند مالك. واختلفوا فيمن قال لامرأته : قد فارقتك ، أو سرحتك ، أو أنت خلية ، أو برية ، أو بائن ، أو حبلك على غاربك ، أو أنت علي حرام ، أو الحقي بأهلك ، أو قد وهبتك لأهلك ، أو قد خليت سبيلك ، أو لا سبيل لي عليك ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف : هو طلاق بائن ، وروى عن ابن مسعود وقال : "إذا قال الرجل لامرأته استقلي بأمرك ، أو أمرك لك ، أو الحقي بأهلك فقبلوها فواحدة بائنة". وروي عن مالك فيمن قال لامرأته : قد فارقتك ، أو سرحتك ، أنه من صريح الطلاق ، كقوله : أنت طالق. وروي عنه أنه كناية يرجع فيها إلى نية قائلها ، ويسأل ما أراد من العدد ، مدخولا بها كانت أو غير مدخول بها. قال ابن المواز : وأصح قوليه في التي لم يدخل بها أنها واحدة ، إلا أن ينوي أكثر ، وقاله ابن القاسم وابن عبدالحكم. وقال أبو يوسف : هي ثلاث ، ومثله خلعتك ، أو لا ملك لي عليك. (3/134) ________________________________________ وأما سائر الكنايات فهي ثلاث عند مالك في كل من دخل بها لا ينوى فيها قائلها ، وينوى في غير المدخول بها. فإن حلف وقال أردت واحدة كان خاطبا من الخطاب ، لأنه لا يخلي المرأة التي قد دخل بها زوجها ولا يبينها ولا يبريها إلا ثلاث تطليقات. والتي لم يدخل بها يخليها ويبريها ويبينها الواحدة. وقد روى مالك وطائفة من أصحابه ، وهو قول جماعة من أهل المدينة ، أنه ينوي في هذه الألفاظ كلها ويلزمه من الطلاق ما نوى. وقد روي عنه في البتة خاصة من بين سائر الكنايات أنه لا ينوي فيها لا في المدخول بها ولا في غير المدخول بها. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه : له نيته في ذلك كله ، فإن نوى ثلاثا فهي ثلاث ، وإن نوى واحدة فهي واحده بائنة وهي أحق بنفسها. وإن نوى اثنتين فهي واحدة. وقال زفر : إن نوى اثنتين فهي اثنتان. وقال الشافعي : هو في ذلك كله غير مطلق حتى يقول : أردت بمخرج الكلام مني طلاقا فيكون ما نوى. فإن نوى دون الثلاث كان رجعيا ، ولو طلقها واحدة بائنة كانت رجعية. وقال إسحاق : كل كلام يشبه الطلاق فهو ما نوى من الطلاق. وقال أبو ثور : هي تطليقة رجعية ولا يسأل عن نيته. وروي عن ابن مسعود "أنه كان لا يرى طلاقا بائنا إلا في خلع أو إيلاء" وهو المحفوظ عنه ، قال أبو عبيد. وقد ترجم البخاري "باب إذا قال فارقتك أو سرحتك أو البرية أو الخلية أو ما عنى به الطلاق فهو على نيته". وهذا منه إشارة إلى قول الكوفيين والشافعي وإسحاق في قوله : أو ما عنى به من الطلاق" والحجة في ذلك أن كل كلمة تحتمل أن تكون طلاقا أو غير طلاق فلا يجوز أن يلزم بها الطلاق إلا أن يقول المتكلم : إنه أراد بها الطلاق فيلزمه ذلك بإقراره ، ولا يجوز إبطال النكاح لأنهم قد أجمعوا على صحته بيقين. قال أبو عمر : واختلف قول مالك في معنى قول الرجل لامرأته : اعتدي ، أو قد خليتك ، أو حبلك على غاربك ، فقال مرة : لا ينوي فيها وهي ثلاث. وقال مرة : ينوي فيها كلها ، في المدخول بها وغير المدخول بها ، وبه أقول. قلت : ما ذهب إليه الجمهور ، وما روى عن مالك أنه ينوي في هذه الألفاظ ويحكم عليه بذلك هو الصحيح ، لما ذكرناه من الدليل ، وللحديث الصحيح الذي خرجه أبو داود (3/135) ________________________________________ وابن ماجة والدارقطني وغيرهم عن يزيد بن ركانة : "أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال : "الله ما أردت إلا واحدة" ؟ فقال ركانة : والله ما أردت إلا واحدة ، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال ابن ماجة : سمعت أبا الحسن الطنافسي يقول : ما أشرف هذا الحديث! وقال مالك في الرجل يقول لامرأته : أنت علي كالميتة والدم ولحم الخنزير : أراها البتة وإن لم تكن له نية ، فلا تحل إلا بعد زوج. وفي قول الشافعي : إن أراد طلاقا فهو طلاق ، وما أراد من عدد الطلاق ، وإن لم يرد طلاقا فليس بشيء بعد أن يحلف. وقال أبو عمر : أصل هذا الباب في كل كناية عن الطلاق ، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال - للتي تزوجها حين قالت : أعوذ بالله منك - : "قد عذت بمعاذ الحقي بأهلك". فكان ذلك طلاقا. وقال كعب بن مالك لامرأته حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتزالها : الحقي بأهلك فلم يكن ذلك طلاقا ، فدل على أن هذه اللفظة مفتقرة إلى النية ، وأنها لا يقضى فيها إلا بما ينوي اللافظ بها ، وكذلك سائر الكنايات المحتملات للفراق وغيره. والله أعلم. وأما الألفاظ التي ليست من ألفاظ الطلاق ولا يكنى بها عن الفراق ، فأكثر العلماء لا يوقعون بشيء منها طلاقا وإن قصده القائل. وقال مالك : كل من أراد الطلاق بأي لفظ كان لزمه الطلاق حتى بقوله كلي واشربي وقومي واقعدي ، ولم يتابع مالكا على ذلك إلا أصحابه. قوله تعالى : {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} فيه خمس عشرة مسأله : الأولى : - قوله تعالى : {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} "أن" في موضع رفع بـ "يحل". والآية خطاب للأزواج ، نهوا أن يأخذوا من أزواجهم شيئا على وجه المضارة ، وهذا هو الخلع الذي لا يصح إلا بألا ينفرد الرجل بالضرر ، وخص بالذكر ما آتى (3/136) ________________________________________ الأزواج نساءهم ، لأن العرف بين الناس أن يطلب الرجل عند الشقاق والفساد ما خرج من يده لها صداقا وجهازا ، فلذلك خص بالذكر. وقد قيل : إن قوله "ولا يحل" فصل معترض بين قوله تعالى : {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وبين قوله : {فَإِنْ طَلَّقَهَا} . الثانية : - والجمهور على أن أخذ الفدية على الطلاق جائز. وأجمعوا على تحظير أخذ ما لها إلا أن يكون النشوز وفساد العشرة من قبلها. وحكى ابن المنذر عن النعمان أنه قال : إذا جاء الظلم والنشوز من قبله وخالعته فهو جائز ماض وهو آثم ، لا يحل له ما صنع ، ولا يجبر على رد ما أخذه. قال ابن المنذر : وهذا من قوله خلاف ظاهر كتاب الله ، وخلاف الخبر الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلاف ما أجمع عليه عامة أهل العلم من ذلك ، ولا أحسب أن لو قيل لأحد : اجهد نفسك في طلب الخطأ ما وجد أمرا أعظم من أن ينطق الكتاب بتحريم شيء ثم يقابله مقابل بالخلاف نصا ، فيقول : بل يجوز ذلك : ولا يجبر على رد ما أخذ. قال أبو الحسن بن بطال : وروى ابن القاسم عن مالك مثله. وهذا القول خلاف ظاهر كتاب الله تعالى ، وخلاف حديث امرأة ثابت ، وسيأتي. الثالثة : - قوله تعالى : { إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} حرم الله تعالى في هذه الآية ألا يأخذ إلا بعد الخوف ألا يقيما حدود الله ، وأكد التحريم بالوعيد لمن تعدى الحد. والمعنى أن يظن كل واحد منهما بنفسه ألا يقيم حق النكاح لصاحبه حسب ما يجب عليه فيه لكراهة يعتقدها ، فلا حرج على المرأة أن تفتدي ، ولا حرج على الزوج أن يأخذ. والخطاب للزوجين. والضمير في {أن يخافا} لهما ، و {ألا يقيما} مفعول به. و"خفت" يتعدى إلى مفعول واحد. ثم قيل : هذا الخوف هو بمعنى العلم ، أي أن يعلما ألا يقيما حدود الله ، وهو من الخوف الحقيقي ، وهو الإشفاق من وقوع المكروه ، وهو قريب من معنى الظن. ثم قيل : {إلا أن يخافا} استثناء منقطع ، أي لكن إن كان منهن نشوز فلا جناح عليكم في أخذ الفدية. وقرأ حمزة "إلا أن يخافا" بضم الياء على ما لم يسم فاعله ، والفاعل محذوف وهو الولاة والحكام ، واختاره أبو عبيد. قال : لقوله عز وجل {فَإِنْ خِفْتُمْ} (3/137)
| |
|