تفسير سورة طه عليه السلام
الآيتان : 72 - 73 {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}
الآية : ]74[ {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى}
الآية : ]75[ {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى}
الآية : ]76[ {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى}
قوله تعالى : {قَالُوا} يعني السحرة {لَنْ نُؤْثِرَكَ} أي لن نختارك {عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} قال ابن عباس : يريد من اليقين والعلم. وقال عكرمة وغيره : لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم في الجنة ؛ فلهذا قالوا {لَنْ نُؤْثِرَكَ}. وكانت امرأة فرعون تسأل من غلب ، فقيل لها : غلب موسى وهارون ؛ فقالت : آمنت برب موسى وهارون. فأرسل إليها فرعون فقال : انظروا أعظم صخرة فإن مضت على فولها فألقوها عليها ؛ فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأبصرت منزلها في الجنة ، فمضت على قولها فانتزع روحها ، وألقيت الصخرة على جسدها وليس في جسدها روح. وقيل : قال مقدم السحرة لمن يثق به لما رأى من عصا موسى ما رأى : انظر إلى هذه الحية هل تخوفت فتكون جنيا أو لم تتخوف فهي من صنعة الصانع الذي لا يعزب عليه مصنوع ؛ فقال : ما تخوفت ؛ فقال : آمنت برب هارون وموسى. {وَالَّذِي فَطَرَنَا} قيل : هو معطوف على {مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} أي لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات ولا على الذي فطرنا أي خلقنا. وقيل : هو قسم أي والله لن نؤثرك. {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} التقدير ما أنت قاضيه. وليست {مَا} ها هنا التي تكون مع الفعل بمنزلة المصدر ؛ لأن تلك توصل بالأفعال ، وهذه موصولة بابتداء وخبر.
(11/225)
قال ابن عباس : فاصنع ما أنت صانع. وقيل : فاحكم ما أنت حاكم ؛ أي من القطع والصلب. وحذفت الياء من قاض الوصل لسكونها وسكون التنوين. واختار سيبويه إثباتها في الوقف لأنه قد زالت علة الساكنين. {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي إنما ينفذ أمرك فيها. وهي منصوبة على الظرف ، والمعنى : إنما تقضي في متاع هذه الحياة الدنيا. أو وقت هذه الحياة الدنيا ، فتقدر حذف المفعول. ويجوز أن يكون التقدير : إنما تقضي أمور هذه الحياة الدنيا ، فتنتصب انتصاب المفعول و {مَا} كافة لإن. وأجاز الفراء الرفع على أن تجعل {مَا} بمعنى الذي وتحذف الهاء من تقضي ورفعت {هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}. {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا} أي صدقنا بالله وحده لا شريك له وما جاءنا به موسى. {لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} يريدون الشرك الذي كانوا عليه. {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} {مَا} في موضع نصب معطوفة على الخطايا. وقيل : لا موضع لها وهى نافية ؛ أي ليغفر لنا خطايانا من السحر وما أكرهتنا عليه. النحاس : والأول أولى. المهدوي : وفيه بعد ؛ لقولهم : {إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} وليس هذا بقول مكرهين ؛ ولأن الإكراه ليس بذنب ، وإن كان يجوز أن يكونوا أكرهوا على تعليمه صغارا. قال الحسن : كانوا يعلمون السحر أطفالا ثم عملوه مختارين بعد. ويجوز أن يكون {مَا} في موضع رفع بالابتداء ويضمر الخبر ، والتقدير : وما أكرهتنا عليه من السحر موضوع عنا. و {مِنَ السِّحْرِ} على هذا القول والقول الأول يتعلق بـ {أَكْرَهْتَنَا} . وعلى أن {مَا} نافية يتعلق بـ {خَطَايَانَا}. {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي ثوابه خير وأبقى فحذف المضاف ؛ قاله ابن عباس. وقيل : الله خير لنا منك وأبقى عذابا لنا من عذابك لنا. وهو جواب قوله {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} وقيل : الله خير لنا إن أطعناه ، وأبقى عذابا منك إن عصيناه.
قوله تعالى : {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} قيل هو من قول السحرة لما آمنوا. وقيل ابتداء كلام من الله عز وجل. والكناية في {إِنَّهُ} ترجع إلى الأمر والشأن. ويجوز إن من يأت ، ومنه قول الشاعر :
إن من يدخل الكنيسة يوما ... يلق فيها جآذرا وظباء
(11/226)
أراد إنه من يدخل ؛ أي أن الأمر هذا ؛ أن المجرم يدخل النار ، والمؤمن يدخل الجنة. والمجرم الكافر. وقيل : الذي يقترف المعاصي ويكتسبها. والأول أشبه ؛ لقوله : {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} وهذه صفة الكافر المكذب الجاحد - على ما تقدم بيانه في سورة “النساء” وغيرها - فلا ينتفع بحياته ولا يستريح بموته. قال الشاعر :
ألا من لنفس لا تموت فينقضي ... شقاها ولا تحيا حياة لها طعم
وقيل : نفس الكافر معلقة في حنجرته أخبر الله تعالى عنه فلا يموت بفراقها ، ولا يحيا باستقرارها. ومعنى {مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} من يأت موعد ربه. ومعنى {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً} أي يمت عليه ويوافيه مصدقا به. {قَدْ عَمِلَ} أي وقد عمل {الصَّالِحَاتِ} أي الطاعات وما أمر به ونهى عنه. {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} أي الرفيعة التي قصرت دونها الصفات. ودل قوله : “ومن يأته مؤمنا” على أن المراد بالمجرم المشرك.
قوله تعالى : {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بيان للدرجات وبدل منها ، والعدن الإقامة. {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا} أي من تحت غرفها وسررها {الْأَنْهَارُ} من الخمر والعسل واللبن والماء. {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين دائمين. {وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} أي من تطهر من الكفر والمعاصي. ومن قال هذا من قول السحرة قال : لعل السحرة سمعوه من موسى أو من بني إسرائيل إذ كان فيهم بمصر أقوام ، وكان فيهم أيضا المؤمن من آل فرعون.
قلت : ويحتمل أن يكون ذلك إلهاما من الله لهم أنطقهم بذلك لما آمنوا ؛ والله أعلم.
الآيات : 77 - 79 {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى ، فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ، وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} تقدم. {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً} أي يابسا لا طين فيه ولا ماء.وقد مضى في البقرة.
(11/227)
ضرب موسى البحر وكنيته إياه ، وإغراق فرعون فلا معنى للإعادة {لا تَخَافُ دَرَكاً} أي لحاقا من فرعون وجنوده. {وَلا تَخْشَى} قال ابن جريج قال أصحاب موسى : هذا فرعون قد أدركنا ، وهذا البحر قد غشينا ، فأنزل الله تعالى {لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى} أي لا تخاف دركا من فرعون ولا تخشى غرقا من البحر أن يمسك إن غشيك. وقرأ حمزة {لاَ تَخَفْ} على أنه جواب الأمر. التقدير إن تضرب لهم طريقا في البحر لا تخف. و {لاَ تَخْشَى} مستأنف على تقدير : ولا أنت تخشى. أو يكون مجزوما والألف مشبعة من فتحة ؛ كقوله : {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب : 67] أو يكون على حد قول الشاعر :
كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا
على تقدير حذف الحركة كما تحذف حركة الصحيح. وهذا مذهب الفراء. وقال آخر :
هجوت زبان ثم جئت معتذرا ... من هجو زبان لم تهجو ولم تدع
وقال آخر :
ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد
قال النحاس : وهذا من أقبح الغلط أن يحمل كتاب الله عز وجل على الشذوذ من الشعر ؛ وأيضا فإن الذي جاء به من الشعر لا يشبه من الآية شيئا ؛ لأن الياء والواو مخالفتان للألف ؛ لأنهما تتحركان والألف لا تتحرك ، وللشاعر إذا اضطر أن يقدرهما متحركتين ثم تحذف الحركة للجزم ، وهذا محال في الألف ؛ والقراءة الأولى أبين لأن بعده {وَلاَ تَخْشَى} مجمع عليه بلا جزم ؛
وفيها ثلاث تقديرات :
الأول أن يكون {لاَ تَخَافُ} في موضع الحال من المخاطب ، التقدير فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا غير خائف ولا خاش.
الثاني : أن يكون في موضع النعت للطريق ؛ لأنه معطوف على يبس الذي هو صفة ، ويكون التقدير لا تخاف فيه ؛ فحذف الراجع من الصفة.
والثالث : أن يكون منقطعا خبر ابتداء محذوف تقديره وأنت لا تخاف
(11/228)
قوله تعالى : {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} أي اتبعهم ومعه جنوده ، وقرئ {فَاتَّبَعَهُمْ} بالتشديد فتكون الباء في {بِجُنُودِهِ} عدت الفعل إلى المفعول الثاني ؛ لأن اتبع يتعدى إلى مفعول واحد. أي تبعهم ليلحقهم بجنوده أي مع جنوده كما يقال : ركب الأمير بسيفه أي مع سيفه. ومن قطع “فأتبع” يتعدى إلى مفعولين : فيجوز أن تكون الباء زائدة ، ويجوز أن يكون اقتصر على مفعول واحد. يقال : تبعه وأتبعه ولحقه وألحقه بمعنى واحد. وقوله : {بِجُنُودِهِ} في موضع الحال ؛ كأنه قال : فأتبعهم سائقا جنوده. {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} أي أصابهم من البحر ما غرقهم ، وكرر على معنى التعظيم والمعرفة بالأمر. {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} أي أضلهم عن الرشد وما هداهم إلى خير ولا نجاة ؛ لأنه قدر أن موسى عليه السلام ومن معه لا يفوتونه ؛ لأن بين أيديهم البحر. فلما ضرب موسى البحر بعصاه أنفلق منه اثنا عشر طريقا وبين الطرق الماء قائما كالجبال. وفي سورة الشعراء {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} أي الجبل الكبير ؛ فأخذ كل سبط طريقا. وأوحى الله إلى أطواد الماء أن تشكبي فصارت شبكات برى بعضهم بعضا ويسمع بعضهم كلام بعض ، وكان هذا من أعظم المعجزات ، وأكبر الآيات ، فلما أقبل فرعون ورأى الطرق في البحر والماء قائما أوهمهم أن البحر فعل هذا لهيبته ، فدخل هو وأصحابه فانطبق البحر عليهم. وقيل إن قوله : {وَمَا هَدَى} تأكيد لإضلاله إياهم. وقيل هو جواب قول فرعون {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر : 29] فكذبه الله تعالى. وقال ابن عباس {وَمَا هَدَى} أي ما هدى نفسه بل أهلك نفسه وقومه.
الآيات : 80 - 82 {يَا بَنِي إِسْرائيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ، كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ، وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى}
(11/229)
قوله تعالى : {يَا بَنِي إِسْرائيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ} لما أنجاهم من فرعون قال لهم هذا ليشكروا. {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} {جَانِبَ} نصب على المفعول الثاني لـ “واعدنا” ولا يحسن أن ينتصب على الظرف ؛ لأنه ظرف مكان غير مبهم. وإنما تتعدى الأفعال والمصادر إلى ظروف المكان بغير حرف جر إذا كانت مبهمة. قال مكي هذا أصل لا خلاف فيه ؛ وتقدير الآية. وواعدناكم إتيان جانب الطور ؛ ثم حذف المضاف. قال النحاس : أي أمرنا موسى أن يأمركم بالخروج معه ليكلمه بحضرتكم فتسمعوا الكلام. وقيل : وعد موسى بعد إغراق فرعون أن يأتي جانب الطور الأيمن فيؤتيه التوراة ، فالوعد كان لموسى ولكن خوطبوا به لأن الوعد كان لأجلهم. وقرأ أبو عمرو “ووعدناكم” بغير ألف واختاره أبو عبيد ؛ لأن الوعد إنما هو من الله تعالى لموسى خاصة ، والمواعدة لا تكون إلا من اثنين. و”الأيمن” نصب ؛ لأنه نعت للجانب وليس للجبل يمين ولا شمال ، فإذا قيل : خذ عن يمين الجبل فمعناه خذ علي يمينك من الجبل. وكان الجبل على يمين موسى إذ أتاه. {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} أي في التيه وقد تقدم القول فيه. {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي من لذيذ الرزق. وقيل : إذ لا صنع فيه لآدمي فتدخله شبهة. {وَلا تَطْغَوْا فِيهِ} أي لا تحملنكم السعة والعافية أن تعصوا ؛ لأن الطغيان التجاوز إلى ما لا يجوز. وقيل : المعنى ؛ أي لا تكفروا النعمة ولا تنسوا شكر المنعم بها عليكم. وقيل : أي ولا تستبدلوا بها شيئا أخر كما قال : {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة : 61] وقيل : لا تدخروا منه لأكثر من يوم وليله ؛ قال ابن عباس : فيتدود عليه ما ادخروه ؛ ولولا ذلك ما تدود طعام أبدا. {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} أي يجب وينزل ، وهو منصوب بالفاء في جواب النهي من قوله : {وَلاَ تَطْغَوْا}. فيحل عليكم غضبى قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والكسائي {فَيَحُلَّ} بضم الحاء. {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والكسائي {وَمَنْ يَحْلِلْ} بضم اللام الأولى. والباقون بالكسر وهما لغتان. وحكى
(11/230)
أبو عبيدة وغيره : أنه يقال يحل إذا وجب وحل إذا نزل . وكذا قال الفراء : الضم من الحلول بمعنى الوقوع والكسر من الوجوب . والمعنيان متقاربان إلا أن الكسر أولى ، لأنهم قد أجمعوا على قوله : { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ } . وغضب الله عقابه ونقمته وعذابه. { فَقَدْ هَوَى } قال الزجاج : فقد هلك ، أي صار إلى الهاوية وهي قعر النار ، من هوى يهوي هويا أي سقط من علو إلى سفل ، وهوى فلان أي مات . وذكر ابن المبارك : أخبرنا إسمعيل بن عياش قال حدثنا ثعلبة بن مسلم عن أيوب بن بشير عن شفي الأصبحي قال : إن في جهنم جبلا يدعى صعودا يطلع فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يرقاه ، قال تعالى : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } وإن في جهنم قصرا يقال له هوى يرمى الكافر من أعلاه فيهوي أربعين خريفا قبل أن يصل أصله ، قال الله تعالى : { وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } وذكر الحديث ، وقد ذكرناه في كتاب "التذكرة".
قوله تعالى : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ } أي من الشرك . { وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } أي قام على إيمانه حتى مات عليه ، قاله سفيان الثوري وقتادة وغيرهما . وقال ابن عباس : أي لم يشك في إيمانه حتى مات عليه ، ذكره الماوردي والمهدي . وقال سهل بن عبد الله التستري وابن عباس أيضا : أقام على السنة والجماعة ، ذكره الثعلبي . وقال أنس : أخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ذكره المهدوي ، وحكاه المارودي عن الربيع بن أنس . وقول خامس : أصاب العمل ، قاله ابن زيد ، وعنه أيضا تعلم العلم ليهتدي كيف يفعل ، ذكر الأول المهدوي والثاني الثعلبي . وقال الشعبي ومقاتل والكلبي : علم أن لذلك ثوابا وعليه عقابا ، وقاله الفراء . وقول ثامن : { ثُمَّ اهْتَدَى } في ولاية أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله ثابت البناني . والقول الأول أحسن هذه الأقوال – إن شاء الله – وإليه يرجع سائرها . قال وكيع عن سفيان : كنا نسمع في قوله عزوجل { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ } أي من الشرك { وَآمَنَ } أي بعد الشرك { وَعَمِلَ صَالِحاً } صلى وصام "ثم اهتدى" مات على ذلك.
(11/231)
الآيتان : 83 - 84 {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى ، قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}
الآية : ]85[ {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ}
الآية : ]86[ {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي}
الآية : ]87[ {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ}
الآية : ]88[ {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ}
الآية : ]89[ {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً}
قوله تعالى : {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} أي ما حملك على أن تسبقهم. قيل : عنى بالقوم جميع بني إسرائيل ؛ فعلى هذا قيل : استخلف هارون على بني إسرائيل ، وخرج معه بسبعين رجلا للميقات فقوله : {قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي} ليس يريد أنهم يسيرون خلفه متوجهين إليه ، بل أراد أنهم بالقرب مني ينتظرون عودي إليهم. وقيل : لا بل كان أمر هارون بأن يتبع في بني إسرائيل أثره ويلتحقوا به. وقال قوم : أراد بالقوم السبعين الذين اختارهم ، وكان موسى لما قرب من الطور سبقهم شوقا إلى سماع كلام الله. وقيل : لما وفد إلى طور سينا بالوعد اشتاق إلى ربه وطالت عليه المسافة من شدة الشوق إلى الله تعالى ، فضاق به الأمر شق قميصه ، ثم لم يصبر حتى خلفهم ومضى وحده ؛ فلما وقف في مقامه قال الله تبارك وتعالى : {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} فبقي صلى الله عليه وسلم متحيرا عن الجواب وكنى عنه بقوله : {هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي} وإنما سأله السبب الذي أعجله يقوله {مَا} فأخبر عن مجيئهم بالأثر. {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} فكنى عن
(11/232)
ذكر الشوق وصدقه إلى ابتغاء الرضا. ذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله : {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} قال : شوقا. وكانت عائشة رضي الله عنها إذا آوت إلى فراشها تقول : هاتوا المجيد. فتؤتى بالمصحف فتأخذه في صدرها وتنام معه تتسلى بذلك ؛ رواه سفيان عن معسر عائشة رضي الله عنها. وكان عليه الصلاة والسلام إذا أمطرت السماء خلع ثيابه وتجرد حتى يصيبه المطر ويقول : "إنه حديث عهد بربي" فهذا من الرسول صلى الله عليه وسلم وممن بعده من قبيل الشوق ؛ ولذلك قال الله تبارك اسمه فيما يروى عنه : “طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشوق”. قال ابن عباس : كان الله عالما ولكن قال : {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ} رحمة لموسى ، وإكراما له بهذا القول ، وتسكينا لقلبه ، ورقة عليه ؛ فقال مجيبا لربه : {هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي}. قال أبو حاتم قال عيسى : بنو تميم يقولون : {هُمْ أولَى} مقصورة مرسلة ، وأهل الحجاز يقولون “أولاءِ” ممدودة. وحكى الفراء {هم أُولايَ عَلَى أَثَرِي} وزعم أبو إسحاق الزجاج : أن هذا لا وجه له. قال النحاس وهو كما قال : لأن هذا ليس مما يضاف فيكون مثل هداي. ولا يخلو من إحدى جهتين : إما أن يكون اسما مبهما فإضافته محال ؛ وإما أن يكون بمعنى الذين فلا يضاف أيضا ؛ لأن ما بعده من تمامه وهو معرفة. وقرأ ابن أبي إسحاق ونصر ورويس عن يعقوب “عَلى إِثْرِي” بكسر الهمزة وإسكان الثاء وهو بمعنى أثر ، لغتان. {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} أ عجلت إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عني. يقال : رجل عجل وعجل وعجول وعجلان بين العجلة ؛ والعجلة خلاف البطء.
قوله تعالى : {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} أي اختبرناهم وامتحناهم بأن يستدلوا على الله عز وجل. {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} أي دعاهم إلى الضلالة أو هو سببها. وقيل : فتناهم ألقيناهم في الفتنة : أي زينا لهم عبادة العجل ؛ ولهذا قال موسى : {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} [الأعراف : 155]. قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان السامري من قوم يعبد ون البقر ، فوقع بأرض مصر فدخل في دين بني إسرائيل بظاهره ، وفي قلبه ما فيه من عبادة البقر. وقيل : كان رجلا
(11/233)
من القبط ، وكان جارا لموسى أمن به وخرج معه. وقيل : كان عظيما من عظماء بني إسرائيل ، من قبيلة تعرف بالسامرة وهم معروفون بالشام. قال سعيد بن جبير : كان من أهل كرمان.
قوله تعالى : {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} حال وقد مضى في “الأعراف”. {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} وعدهم عز وجل الجنة إذا أقاموا على طاعته ، ووعدهم أنه يسمعهم كلامه ، في التوراة على لسان موسى ؛ ليعملوا بما فيها فيستحقوا ثواب عملهم. وقيل : وعدهم النصر والظفر. وقيل : وعده قوله : {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ} الآية. {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} أي أفنسيتم ؛ كما قيل ؛ والشيء قد ينسى لطول العهد. {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} {يَحِلَّ} أي يجب وينزل. والغضب العقوبة والنقمة. والمعنى أم أردتم أن تفعلوا فعلا يكون سبب حلول غضب الله بكم ؛ لأن أحدا لا يطلب غضب الله ، بل قد يرتكب ما يكون سببا للغضب. {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} لأنهم وعدوه أن يقيموا على طاعة الله عز وجل إلى أن يرجع إليهم من الطور. وقيل : وعدهم على أثره للميقات فتوقفوا. {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} بفتح الميم ، وهي قراءة نافع وعاصم وعيسى بن عمر. قال مجاهد والسدي : ومعناه بطاقتنا. ابن زيد : لم نملك أنفسنا أي كنا مضطرين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر {بِمِلْكِنَا} بكسر الميم. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ؛ لأنها اللغة العالية. وهو مصدر ملكت الشيء أملكه ملكا. والمصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف ؛ كأنه قال : بملكنا الصواب بل أخطأنا فهو اعتراف منهم بالخطأ. وقرأ حمزة والكسائي {بِمُلْكنَا} بضم الميم والمعنى بسلطاننا. أي لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك. ثم قيل قوله : {قَالُوا} عام يراد به الخاص ، أي قال الذين ثبتوا على طاعة الله إلى أن يرجع إليهم من الطور : {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} وكانوا اثني عشر ألفا وكان جميع بني إسرائيل ستمائة ألف.
قوله تعالى : {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا} بضم الحاء وتشديد الميم مكسورة ؛ قرأه نافع وابن كثير وابن عامر وحفص ورويس. الباقون بفتح الحرفين خفيفة. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ؛ لأنهم حملوا حلي القوم
(11/234)
معهم وما حملوه كرها. {أَوْزَاراً} أي أثقالا {مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} أي من حليهم ؛ وكانوا استعاره حين حين أرادوا الخروج مع موسى عليه السلام ، وأوهموهم أنهم يجتمعون في عيد لهم أو وليمة. وقيل : هو ما أخذوه من آل فرعون ، لما قذفهم البحر إلى الساحل. وسميت أوزارا بسبب أنها كانت آثاما. أي لم يحل لهم أخذها ولم تحل لهم الغنائم ، وأيضا فالأوزار هي الأثقال في اللغة. {فَقَذَفْنَاهَا} أي ثقل علينا حمل ما كان معنا من الحلي فقذفناه في النار ليذوب ، أي طرحناه فيها. وقيل : طرحناه إلى السامري لترجع فترى فيها رأيك. قال قتادة : إن السامري قال لهم حين استبطأ القوم موسى : إنما احتبس عليكم من أجل ما عندكم من الحلي ؛ فجمعوه ودفعوه إلى السامري فرمى به في النار وصاغ لهم منه عجلا ، ثم ألقى عليه قبضة من أثر فرس الرسول وهو جبريل عليه السلام. وقال معمر : الفرس الذي كان عليه جبريل هو الحياة ، فلما ألقى عليه القبضة صار عجلا جسدا له خوار. والخوار صوت البقر. وقال ابن عباس : لما انسكبت الحلي في النار ، جاء السامري وقال لهارون : يا نبي الله أؤلقي ما في يدي - وهو يظن أنه كبعض ما جاء به غيره من الحلي - فقذف التراب فيه ، وقال : كن عجلا جسدا له خوار ؛ فكان كما قال للبلاء والفتنة ؛ فخار خورة واحدة لم يتبعها مثلها. وقيل : خواره وصوته كان بالريح ؛ لأنه كان عمل فيه خروقا فإذا دخلت الريح في جوفه خار ولم تكن فيه حياة. وهذا قول مجاهد. وعلى القول الأول كان عجلا من لحم ودم ، وهو قول الحسن وقتادة والسدي. وروى حماد عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : مر هارون بالسامري وهو يصنع العجل فقال : ما هذا ؟ فقال : ينفع ولا يضر ؛ فقال : اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه ؛ فقال : اللهم إني أسألك أن يخور. وكان إذا خار سجدوا ، وكان الخوار من دعوة هارون. قال ابن عباس : خار كما يخور الحي من العجول. وروى أن موسى قال : يا رب هذا السامري أخرج لهم عجلا جسدا له خوار من حليهم ، فمن جعل الجسد والخوار ؟ قال الله تبارك وتعالى : أنا. قال موسى صلى الله عليه وسلم : وعزتك وجلالك وارتفاعك وعلوك وسلطانك ما أضلهم غيرك. قال : صدقت يا حكيم
(11/235)
الحكماء. وقد تقدم. {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} أي قال السامري ومن تبعه وكانوا ميالين إلى الشبيه ؛ إذا قالوا {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}. “الأعراف 138” {فَنَسِيَ} أي فضل موسى [وذهب] بطلبه فلم يعلم مكانه ، وأخطأ الطريق إلى ربه. وقيل معناه : فتركه موسى هنا وخرج يطلبه. أي ترك موسى إلهه هنا. وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : أي فنسي موسى أن يذكر لكم أنه إلهه. وقيل : الخطاب خبر عن السامري. أي ترك السامري ما أمره به موسى من الإيمان فضل ؛ قاله ابن العربي. {أَفَلا يَرَوْنَ} فقال الله تعالى محتجا عليهم : {أَفَلا يَرَوْنَ} أي يعتبرون ويتفكرون في {أَنـ} ـه {لاَ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً} أي لا يكلمهم. وقيل : لا يعود إلى الخوار والصوت. {وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} فكيف يكون إلها ؟ والذي يعبد ه موسى صلى الله عليه وسلم وينفع ويثيب ويعطي ويمنع. {أَنْ لاَ يَرْجِعُ} تقديره أنه لا يرجع فلذلك ارتفع الفعل فخففت “أن” وحذف الضمير. وهو الاختيار في الرؤية والعلم والظن. قال :
في فتية من سيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يحفى وينتعل
وقد يحذف مع التشديد ؛ قال :
فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ... ولكن زنجي عظيم المشافر
أي ولكنك.
الآيات : 90 - 93 {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ، قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ، قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ، أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ} أي من قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ} أي ابتليتم وأضللتم به ؛ أي بالعجل. {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ}
(11/236)
لا العجل. {فَاتَّبِعُونِي} في عبادته. {وَأَطِيعُوا أَمْرِي} لا أمر السامري. أو فاتبعوني في مسيري إلى موسى ودعوا العجل. فعصوه و {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} أي لن نزال مقيمين على عبادة العجل. {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} فينظر هل يعبد ه كما عبد ناه ؛ فتوهموا أن موسى يعبد العجل ، فاعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا من الذين لم يعبد وا العجل ، فلما رجع موسى وسمع الصياح والجلبة وكانوا يرقصون حول العجل قال لسبعين معه هذا صوت الفتنة ؛ فلما رأى هارون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله غضبا و {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا} أي أخطؤوا الطريق وكفروا. {أَلَّا تَتَّبِعَنِ} {لا} زائدة أي أن تتبع أمري ووصيتي. وقيل : ما منعك عن اتباعي في الإنكار عليهم. وقيل : معناه هلا قاتلتهم إذ قد علمت أني لو كنت بينهم لقاتلتهم على كفرهم. وقيل : ما منعك من اللحوق بي لما فتنوا. {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} يريد أن مقامك بينهم وقد عبد وا غير الله تعالى عصيان منك لي ؛ قال ابن عباس. وقيل : معناه هلا فارقتهم فتكون مفارقتك إياهم تقريعا لهم وزجرا. ومعنى : {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} قيل : إن أمره ما حكاه الله تعالى عنه {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف 142] ، فلما أقام معهم ولم يبالغ في منعهم والإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه ومخالفة أمره.
مسألة : وهذا كله أصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتغييره ومفارقة أهله ، وأن المقيم بينهم لا سيما إذا كان راضيا حكمه كحكمهم. وقد تقدم. وسئل الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله : ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية ؟ وأعلم - حرس الله مدته - أنه اجتمع جماعة من رجال ، فيكثرون من ذكر الله تعالى ، وذكر محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم ، ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه ، ويحضرون شيئا يأكلونه. هل الحضور معهم جائز أم لا ؟ أفتونا مأجورين ، وهذا القول الذي يذكرونه :
يا شيخ كف عن الذنوب ... قبل التفرق والزلل
واعمل لنفسك صالحا ... ما دام ينفعك العمل
أما الشباب فقد مضى ... ومشيب رأسك قد نزل
وفي مثل هذا نحوه. الجواب - يرحمك الله - مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة ، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسول ، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري ، لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون ؛ فهو دين الكفار وعباد العجل ؛ وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى ؛ وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار ؛ فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم عن الحضور في المساجد وغيرها ؛ ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم ، ولا يعينهم على باطلهم ؛ هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين وبالله التوفيق.
(11/237)