منتديات ابناء الدويم
كتاب الجامع لأحكام القرآن - تفسير سورة التغابن 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة الواحة
سنتشرف بتسجيلك
شكرا كتاب الجامع لأحكام القرآن - تفسير سورة التغابن 829894
ادارة الواحة كتاب الجامع لأحكام القرآن - تفسير سورة التغابن 103798

منتديات ابناء الدويم
كتاب الجامع لأحكام القرآن - تفسير سورة التغابن 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة الواحة
سنتشرف بتسجيلك
شكرا كتاب الجامع لأحكام القرآن - تفسير سورة التغابن 829894
ادارة الواحة كتاب الجامع لأحكام القرآن - تفسير سورة التغابن 103798

منتديات ابناء الدويم
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات ابناء الدويم

واحة ابناء الدويم
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 كتاب الجامع لأحكام القرآن - تفسير سورة التغابن

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
فوزي عبد القادر موسى عبد
دويمابي برتبة لواء
فوزي عبد القادر موسى عبد


عدد الرسائل : 2478

كتاب الجامع لأحكام القرآن - تفسير سورة التغابن Empty
مُساهمةموضوع: كتاب الجامع لأحكام القرآن - تفسير سورة التغابن   كتاب الجامع لأحكام القرآن - تفسير سورة التغابن I_icon_minitimeالإثنين 30 يوليو - 3:33

سورة التغابن
مقدمة السورة
مدنية في قول الأكثرين. وقال الضحاك : مكية. وقال الكلبي : هي مكية ومدنية. وهي ثماني عشرة آية. وعن ابن عباس أن "سورة التغابن" نزلت بمكة ؛ إلا آيات من آخرها نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي ، شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده ، فأنزل الله عز وجل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} إلى آخر السورة. وعن عبدالله بن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما من مولود يولد إلا وفي تشابيك رأسه مكتوب خمس آيات من فاتحة سورة التغابن".
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية : [1] {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
تقدم في غير موضع.
الآية : [2] {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
قال ابن عباس : إن الله خلق بني آدم مؤمنا وكافرا ، ويعيدهم في يوم القيامة مؤمنا وكافرا. وروى أبو سعيد الخدري قال : خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم عشية فذكر شيئا مما يكون فقال : "يولد الناس على طبقات شتى. يولد الرجل مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت مؤمنا. ويولد الرجل كافرا ويعيش كافرا ويموت كافرا. ويولد الرجل مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت كافرا. ويولد الرجل كافرا ويعيش كافرا ويموت مؤمنا". وقال ابن مسعود : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "خلق الله فرعون في بطن أمه كافرا وخلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا". وفي الصحيح من حديث ابن مسعود : "وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها". خرجه البخاري والترمذي وليس فيه ذكر الباع.وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار. وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة". قال علماؤنا : والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم ؛ فيجري ما علم وأراد وحكم. فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال ، وقد يريده إلى وقت معلوم. وكذلك
(18/132)





الكفر. وقيل في الكلام محذوف : فمنكم مؤمن ومنكم كافر ومنكم فاسق ؛ فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه ؛ قاله الحسن. وقال غيره : لا حذف فيه ؛ لأن المقصود ذكر الطرفين. وقال جماعة من أهل العلم : إن الله خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا. قالوا : وتمام الكلام {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ}. ثم وصفهم فقال : {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} كقوله تعالى : {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} الآية. قالوا : فالله خلقهم ؛ والمشي فعلهم. واختاره الحسين بن الفضل ، قال : لو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}. واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام : "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" الحديث. وقد مضى في "الروم" مستوفى. قال الضحاك : فمنكم كافر في السر مؤمن في العلانية كالمنافق ، ومنكم مؤمن في السر كافر في العلانية كعمار وذويه. وقال عطاء بن أبي رباج : فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب ، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب ؛ يعني في شأن الأنواء. وقال الزجاج - وهو أحسن الأقوال ، والذي عليه الأئمة والجمهور من الأمة - : إن الله خلق الكافر ، وكفره فعل له وكسب ؛ مع أن الله خالق الكفر. وخلق المؤمن ، وإيمانه فعل له وكسب ؛ مع أن الله خالق الإيمان. والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه ؛ لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه. ولا يجوز أن يوجد من كل واحد منهما غير الذي قدر عليه وعلمه منه ؛ لأن وجود خلاف المقدور عجز ، ووجود خلاف المعلوم جعل ، ولا يليقان بالله تعالى. وفي هذا سلامة من الجبر والقدر ؛ كما قال الشاعر :
يا ناظرا في الدين ما الأمر ... لا قدرٌ صحَّ ولا جبْر
وقال سيلان : قدم أعرابي البصرة فقيل له : ما تقول في القدر ؟ فقال : أمر تغالت فيه الظنون ، واختلف فيه المختلفون ؛ فالواجب أن نرد ما أشكل علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه.
(18/133)





الآية : [3] {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}
قوله تعالى : {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} تقدم في غير موضع ؛ أي خلقها حقا يقينا لا ريب فيه. وقيل : الباء بمعنى اللام أي خلقها للحق وهو أن يجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} يعني آدم عليه السلام ، خلقه بيده كرامة ، له ؛ قاله مقاتل. الثاني : جميع الخلائق. وقد مضى معنى التصوير ، وأنه التخطيط والتشكيل. فإن قيل : كيف أحسن صورهم ؟ قيل له : جعلهم أحسن الحيوان كله وأبهاه صورة بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور. ومن حسن صورته أنه خلق منتصبا غير منكب ؛ كما قال عز وجل : {لَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي المرجع ؛ فيجازي كلا بعمله.
الآية : [4] {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
تقدم في غير موضع. فهو عالم الغيب والشهادة ، لا يخفى عليه شيء.
الآية : [5] {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
الخطاب لقريش أي ألم يأتكم خبر كفار الأمم الماضية. {فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} أي عوقبوا. {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي موجع. وقد تقدم.
(18/134)





الآية : [6] {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}
قوله تعالى : {ذَلِكَ} أي هذا العذاب لهم بكفرهم بالرسل تأتيهم {بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالدلائل الواضحة. {فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} أنكروا أن يكون الرسول من البشر. وارتفع "أبشر" على الابتداء. وقيل : بإضمار فعل ، والجمع على معنى بشر ؛ ولهذا قال : {يهدوننا} ولم يقل يهدينا. وقد يأتي الواحد بمعنى الجمع فيكون اسما للجنس ؛ وواحده إنسان لا واحد له من لفظه. وقد يأتي الجمع بمعنى الواحد ؛ نحو قوله تعالى : {مَا هَذَا بَشَراً}. {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا} أي بهذا القول ؛ إذ قالوه استصغارا ولم يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده. وقيل : كفروا بالرسل وتولوا عن البرهان وأعرضوا عن الإيمان والموعظة. {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} أي بسلطانه عن طاعة عباده ؛ قاله مقاتل. وقيل : استغنى الله بما أظهره لهم من البرهان وأوضحه لهم من البيان ، عن زيادة تدعو إلى الرشد وتقود إلى الهداية.
الآية : [7] {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}
قوله تعالى : {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} أي ظنوا. الزعم هو القول بالظن. وقال شريح : لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا. قيل : نزلت في العاص بن وائل السهمي مع خباب حسب ما تقدم بيانه في آخر سورة "مريم" ، ثم عمت كل كافر. {قُلْ} يا محمد {بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} أي لتخرجن من قبوركم أحياء. {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ} لتخبرن .{بِمَا عَمِلْتُمْ} أي بأعمالكم. {وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} إذ الإعادة أسهل من الابتداء.
الآية : [8] {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
(18/135)





قوله تعالى : {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أمرهم بالإيمان بعد أن عرفهم قيام الساعة. {وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} وهو القرآن ، وهو نور يهتدي به من ظلمة الضلال. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
الآية : [9] {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
فيه ثلاث مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} العامل في " يَوْمَ " " لَتُنَبَّؤُنَّ " أو " خَبِيرٌ " لما فيه من معنى الوعد ؛ كأنه قال : والله يعاقبكم يوم يجمعكم. أو بإضمار اذكر. والغبن : النقص. يقال : غبنه غبنا إذا أخذ الشيء منه بدون قيمته. وقراءة العامة "يجمعكم" بالياء ؛ لقوله تعالى : {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فاخبر. ولذكر اسم الله أولا. وقرأ نصر وابن أبي إسحاق والجحدري ويعقوب وسلام "نجمعكم" بالنون ؛ اعتبارا بقوله : {وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا}. ويوم الجمع يوم يجمع الله الأولين والآخرين والإنس والجن وأهل السماء وأهل الأرض. وقيل : هو يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله. وقيل : لأنه يجمع فيه بين الظالم والمظلوم. وقيل : لأنه يجمع فيه بين كل نبي وأمته. وقيل : لأنه يجمع فيه بين ثواب أهل الطاعات وعقاب أهل المعاصي. {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} أي يوم القيامة. قال :
وما أرتجي بالعيش في دار فرقة ... ألا إنما الراحات يوم التغابن
وسمى يوم القيامة يوم التغابن ؛ لأنه غبن فيه أهل الجنة أهل النار. أي أن أهل الجنة أخذوا الجنة ، وأخذ أهل النار النار على طريق المبادلة ؛ فوقع الغبن لأجل مبادلتهم الخير بالشر ، والجيد بالرديء ، والنعيم بالعذاب. يقال : غبنت فلانا إذا بايعته أو شاريته فكان النقص عليه والغلبة لك. وكذا أهل الجنة وأهل النار ؛ على ما يأتي بيانه. ويقال : غبنت
(18/136)





الثوب وخبنته إذا طال عن مقدارك فخطت منه شيئا ؛ فهو نقصان أيضا. والمغابن : ما انثنى من الخلق نحو الإبطين والفخذين. قال المفسرون : فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة. ويظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان ، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيام. قال الزجاج : ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة من كان دون منزلته.
الثانية- فإن قيل : فأي معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها. قيل له : هو تمثيل الغبن في الشراء والبيع ؛ كما قال تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى}. ولما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا في تجارتهم بل خسروا ، وذكر أيضا أنهم غبنوا ؛ وذلك أن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا ، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة. وهذا نوع مبادلة اتساعا ومجازا. وقد فرق الله سبحانه وتعالى الخلق فريقين : فريقا للجنة وفريقا للنار. ومنازل الكل موضوعة في الجنة والنار. فقد يسبق الخذلان على العبد - كما بيناه في هذه السورة وغيرها - فيكون من أهل النار ، فيحصل الموفق على منزل المخذول ومنزل الموفق في النار للمخذول ؛ فكأنه وقع التبادل فحصل التغابن. والأمثال موضوعة للبيان في حكم اللغة والقرآن. وذلك كله مجموع من نشر الآثار وقد جاءت مفرقة في هذا الكتاب. وقد يخبر عن هذا التبادل بالوراثة كما بيناه في {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} والله اعلم. وقد يقع التغابن في غير ذلك اليوم على ما يأتي بيانه بعد ؛ ولكنه أراد التغابن الذي لا جبران لنهايته. وقال الحسن وقتادة : بلغنا أن التغابن في ثلاثة أصناف : رجل علم علما فعلمه وضيعه هو ولم يعمل به فشقي به ، وعمل به من تعلمه منه فنجا به. ورجل اكتسب مالا من وجوه يسأل عنها وشح عليه ، وفرط في طاعة ربه بسببه ، ، ولم يعمل فيه خيرا ، وتركه لوارث لا حساب عليه فيه ؛ فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه. ورجل كان له عبد فعمل العبد بطاعة ربه فسعد ، وعمل السيد بمعصية وبه فشقي. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن الله تعالى يقيم الرجل والمرأة يوم القيامة بين يديه فيقول الله تعالى لهما قولا فما أنتما بقائلين فيقول الرجل يا رب أوجبت نفقتها علي فتعسفتها من حلال وحرام وهؤلاء الخصوم
(18/137)





يطلبون ذلك ولم يبق لي ما أوفي به فتقول المرأة يا رب وما عسى أن أقول اكتسبه حراما وأكلته حلالا وعصاك في مرضاتي ولم أرض له بذلك فبعدا له وسحقا فيقول الله تعالى قد صدقت فيؤمر به إلى النار ويؤمر بها إلى الجنة فتطلع عليه من طبقات الجنة وتقول له غبناك غبناك سعدنا بما شقيت أنت به" فذلك يوم التغابن.
الثالثة- قال ابن العربي : استدل علماؤنا بقوله تعالى : {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} على أنه لا يجوز الغبن في المعاملة الدنيوية ؛ لأن الله تعالى خصص التغابن بيوم القيامة فقال : {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا ؛ فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث. واختاره البغداديون واحتجوا عليه بوجوه : منها قوله صلى الله عليه وسلم لحبان بن منقذ : "إذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثا". وهذا فيه نظر طويل بيناه في مسائل الخلاف. نكتته أن الغبن في الدنيا ممنوع بإجماع في حكم الدين ؛ إذ هو من باب الخداع المحرم شرعا في كل ملة ، لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه لأحد ، فمضى في البيوع ؛ إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبدا ؛ لأنه لا يخلو منه ، حتى إذا كان كثيرا أمكن الاحتراز منه فوجب الرد به. والفرق بين القليل والكثير أصل في الشريعة معلوم ، فقدر علماؤنا الثلث لهذا الحد ؛ إذ رأوه في الوصية وغيرها. ويكون معنى الآية على هذا : ذلك يوم التغابن الجائز مطلقا من غير تفصيل. أو ذلك يوم التغابن الذي لا يستدرك أبدا ؛ لأن تغابن الدنيا يستدرك بوجهين : إما برد في بعض الأحوال ، وإما بربح في بيع آخر وسلعة أخرى. فأما من خسر الجنة فلا درك له أبدا. وقد قال بعض علماء الصوفية : إن اله كتب الغبن على الخلق أجمعين ، فلا يلقى أحد ربه إلا مغبونا ، لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب. وفي الأثر قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يلقى الله أحد إلا نادما إن كان مسيئا إن لم يحسن ، وإن كان محسنا إن لم يزدد".
(18/138)





قوله تعالى : {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَندْخِلْهُ جَنَّاتٍ} قرأ نافع وابن عامر بالنون فيهما ، والباقون بالياء.
الآية : [10] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
قوله تعالى : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا} يعني القرآن {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} لما ذكر ما للمؤمنين ذكر ما للكافرين ؛ كما تقدم في غير موضع.
الآية : [11] {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
قوله تعالى : {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي بإرادته وقضائه. وقال الفراء : يريد إلا بأمر الله. وقيل : إلا بعلم الله. وقيل : سبب نزولها إن الكفار قالوا : لو كان ما عليه المسلمون حقا لصانهم الله عن المصائب في الدنيا ؛ فبين الله تعالى أن ما أصاب من مصيبة في نفس أو مال أو قول أو فعل ، يقتضي هما أو يوجب عقابا عاجلا أو آجلا فبعلم الله وقضائه.
قوله تعالى : {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} أي يصدق ويعلم أنه لا يصيبه مصيبة إلا بإذن الله. {يَهْدِ قَلْبَهُ} للصبر والرضا. وقيل : يثبته على الإيمان. وقال أبو عثمان الجيزي : من صح إيمانه يهد الله قلبه لاتباع السنة. وقيل : {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} عند المصيبة فيقول : {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ؛ قاله ابن جبير. وقال ابن عباس : هو أن يجعل الله في قلبه اليقين ليعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. وقال الكلبي : هو إذا أبتلي صبر ، وإذا أنعم عليه شكر ، وإذا ظلم غفر. وقيل : يهد طبه إلى نيل الثواب في الجنة. وقراءة العامة " يَهْدِ " بفتح الياء وكسر الدال ؛ لذكر اسم الله أولا. وقرأ السلمي وقتادة "يهد قلبه" بضم الياء وفتح الدال على الفعل المجهول ورفع الباء ؛ لأنه اسم فعل لم يسم فاعله.
(18/139)





وقرأ طلحة بن مصرف والأعرج {نهد} بنون على التعظيم " قَلْبَهُ " بالنصب. وقرأ عكرمة " يَهْدِأ قَلْبَهُ " بهمزة ساكنة ورفع الباء ، أي يسكن ويطمئن. وقرأ مثله مالك بن دينار ، إلا أنه لين الهمزة. {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لا يخفى عليه تسليم من انقاد وسلم لأمره ، ولا كراهة من كرهه.
الآية : [12] {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}
الآية : [13] {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}
أي هونوا على أنفسكم المصائب ، واشتغلوا بطاعة الله ، واعملوا بكتابه ، وأطيعوا الرسول في العمل بسنته ؛ فإن توليتم عن الطاعة فليس على الرسول إلا التبليغ .{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} أي لا معبود سواه ، لا خالق غيره فعليه توكلوا.
الآية : [14] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
فيه خمس مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} قال ابن عباس : نزلت هذه الآية بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي ؛ شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده ؛ فنزلت. ذكره النحاس. وحكاه الطبري عن عطاء بن يسار قال : نزلت سورة "التغابن" كلها بمكة إلا هؤلاء الآيات : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ} نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد ، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه فقالوا : إلى من تدعنا ؟ فيرق فيقيم ؛ فنزلت : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
(18/140)





إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ} الآية كلها بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي. وبقية الآيات إلى آخر السورة بالمدينة. وروى الترمذي عن ابن عباس - وسأله رجل عن هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُم} - قال : هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم ؛ فأنزل الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُم} الآية. هذا حديث حسن صحيح.
الثانية- قال القاضي أبو بكر بن العربي : هذا يبين وجه العداوة ؛ فان العدو لم يكن عدوا لذاته وإنما كان عدوا بفعله. فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدوا ، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد وبين الطاعة. وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الشيطان قعد لابن آدم في طريق الإيمان فقال له أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك فخالفه فآمن ثم قعد له على طريق الهجرة فقال له أتهاجر وتترك مالك وأهلك فخالفه فهاجر ثم قعد له على طريق الجهاد فقال له أتجاهد فتقتل نفسك فتنكح نساؤك ويقسم مالك فخالفه فجاهد فقتل ، فحق على الله أن يدخله الجنة". وقعود الشيطان يكون بوجهين : أحدهما : يكون بالوسوسة. والثاني : بأن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج والولد والصاحب ؛ قال الله تعالى : {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت : 25]. وفي حكمة عيسى عليه السلام : من اتخذ أهلا ومالا وولدا كان للدنيا عبدا. وفي صحيح الحديث بيان أدنى من ذلك في حال العبد ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم : "تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد القطيفة تعس وانتكس
(18/141)





وإذا شيك فلا انتقش". ولا دناءة أعظم من عبادة الدينار والدرهم ، ولا همة أخس من همة ترتفع بثوب جديد.
الثالثة- كما أن الرجل يكون له ولده وزوجه عدوا كذلك المرأة يكون لها زوجها وولدها عدوا بهذا المعنى بعينه. وعموم قوله : {من أزواجكم} يدخل فيه الذكر والأنثى لدخولهما في كل آية. والله اعلم.
الرابعة- قوله تعالى : {فَاحْذَرُوهُمْ} معناه على أنفسكم. والحذر على النفس يكون بوجهين : إما لضرر في البدن ، وإما لضرر في الدين. وضرر البدن يتعلق بالدنيا ، وضرر الدين يتعلق بالآخرة. فحذر الله سبحانه العبد من ذلك وأنذره به.
الخامسة- قوله تعالى : {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} روى الطبري عن عكرمة في قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} قال : كان الرجل يريد أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيقول له أهله : أين تذهب وتدعنا ؟ قال : فإذا أسلم وفقه قال : لأرجعن إلى الذين كانوا ينهون عن هذا الأمر ، فلأفعلن ولأفعلن ؛ قال : فأنزل الله عز وجل : {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. وقال مجاهد في قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم} قال : ما عادوهم في الدنيا ولكن حملتهم مودتهم على أن أخذوا لهم الحرام فاعطوه إياهم. والآية عامة في كل معصية يرتكبها الإنسان بسبب الأهل والولد. وخصوص السبب لا يمنع عموم الحكم.
الآية : [15] {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}
قوله تعالى : {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} أي بلاء واختبار يحملكم على كسب المحرم ومنع حق الله تعالى فلا تطيعوهم في معصية الله. وفي الحديث : "يؤتى برجل يوم القيامة
(18/142)





فيقال أكل عياله حسناته". وعن بعض السلف : العيال سوس الطاعات. وقال القتيبي : " فِتْنَةٌ " أي إغرام ؛ يقال : فتن الرجل بالمرأة أي شغف بها. وقيل : " فِتْنَةٌ " محنة. ومنه قول الشاعر :
لقد فتن الناس في دينهم ... وخلَّى ابن عفان شرا طويلا
وقال ابن مسعود : لا يقولن أحدكم اللهم اعصمني من الفتنة ؛ فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال وأهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة ؛ ولكن ليقل : اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن. وقال الحسن في قوله تعالى : {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} : أدخل "من" للتبعيض ؛ لأن كلهم ليسوا بأعداء. ولم يذكر "من" في قوله تعالى : {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} لأنهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما. روى الترمذي وغيره عن عبدالله بن بريدة عن أبيه قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ؛ فجاء الحسن والحسين - عليهما السلام - وعليهما قميصان أحمران ، يمشيان ويعثران ؛ فنزل صلى الله عليه وسلم فحملهما بين يديه ، ثم قال : "صدق الله عز وجل إنما أموالكم وأولادكم فتنة. نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما" ثم أخذ في خطبته. {وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} يعني الجنة ، فهي الغاية ، ولا أجر أعظم منها في قول المفسرين. وفي الصحيحين واللفظ للبحاري - عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا يا رب وأي شيء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا". ولا شك في أن الرضا غاية الآمال. وأنشد الصوفية في تحقيق ذلك :
امتحن الله به خلقه ... فالنار والجنة في قبضته
فهجره أعظم من ناره ... ووصله أطيب من جنته
(18/143)





الآية : [16] {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
الآية : [17] {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}
قوله تعالى : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ}
فيه خمس مسائل :
الأولى : ذهب جماعة من أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} منهم قتادة والربيع بن أنس والسدي وابن زيد. ذكر الطبري : وحدثني يونس بن عبدالأعلى قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قال : جاء أمر شديد ، قالوا : ومن يعرف قدر هذا أو يبلغه ؟ فلما عرف الله أنه قد اشتد ذلك عليهم نسخها عنهم وجاء بهذه الآية الأخرى فقال : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. وقيل : هي محكمة لا نسخ فيها. وقال ابن عباس : قوله تعالى : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} إنها لم تنسخ ، ولكن حق تقاته أن يجاهد لله حق جهاده ، ولا يأخذه في الله لومة لائم ، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. وقد تقدم.
الثانية- فإن قيل : فإذا كانت هذه الآية محكمة غير منسوخة فما وجه قوله في سورة التغابن : {فاتقوا الله ما استطعتم} وكيف يجوز اجتماع الأمر باتقاء الله حق تقاته ، والأمر باتقائه ما استطعنا. والأمر باتقائه حق تقاته إيجاب القرآن بغير خصوص ولا وصل بشرط ، والأمر باتقائه ما استطعنا أمر باتقائه موصولا بشرط. قيل له : قوله : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} بمعزل مما دل عليه قوله تعالى : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} وإنما عنى بقوله : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه فيما جعل فتنة لكم من أموالكم
(18/144)





وأولادكم أن تغلبكم فتنتهم ، وتصدكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام ؛ فتتركوا الهجرة ما استطعتم ؛ بمعنى وأنتم للهجرة مستطيعين. وذلك أن الله جل ثناؤه قد كان عذر من لم يقدر على الهجرة بتركها بقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ - إلى قوله فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} فأخبر أنه قد عفا عمن لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا بالإقامة في دار الشرك ؛ فكذلك معنى قوله : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} في الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام أن تتركوها بفتنة أموالكم وأولادكم. ومما يدل على صحة هذا أن قوله : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} عقيب قوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ}.
ولا خلاف بين السلف من أهل العلم بتأويل القرآن أن هذه الآيات نزلت بسبب قوم كفار تأخروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام بتثبيط أولادهم إياهم عن ذلك ؛ حسب ما تقدم. وهذا كله اختيار الطبري. وقيل : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فيما تطوع به من نافلة أو صدقة ؛ فإنه لما نزل قوله تعالى : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} اشتد على القوم فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم ، فأنزل الله تعالى تخفيفا عنهم : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فنسخت الأولى ؛ قاله ابن جبير. قال الماوردي : ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل أن المكره على المعصية غير مؤاخذ بها ؛ لأنه لا يستطيع اتقاءها.
الثالثة- قوله تعالى : {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} أي اسمعوا ما توعظون به وأطيعوا فيما تؤمرون به وتنهون عنه. وقال مقاتل : اسمعوا" أي اصغوا إلى ما ينزل عليكم من كتاب الله ؛ وهو الأصل في السماع. "وأطيعوا" لرسوله فيما أمركم أو نهاكم. وقال قتادة : عليهما بويع النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة. وقيل : "واسمعوا" أي اقبلوا ما تسمعون ؛ وعبر عنه بالسماع لأنه فائدته.
(18/145)





قلت : وقد تغلغل في هذه الآية الحجاج حين تلاها وقصرها على عبدالملك بن مروان فقال : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} هي لعبدالملك بن مروان أمين الله وخليفته ، ليس فيها مثنوية ، والله لو أمرت رجلا أن يخرج ن باب المسجد فخرج من غيره لحل لي دمه. وكذب في تأويلها بل هي للنبي صلى
الرابعة- قوله تعالى : {وَأَنْفِقُوا} قيل : هو الزكاة ؛ قاله ابن عباس. وقيل : هو النفقة في النفل. وقال الضحاك : هو النفقة في الجهاد. وقال الحسن : هو نفقة الرجل لنفسه. قال ابن العربي : وإنما أوقع قائل هذا قوله : {لأَنْفُسِكُمْ} وخفي عليه أن نفقة النفل والفرض في الصدقة هي نفقة الرجل على نفسه ؛ قال الله تعالى : {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}. وكل ما يفعله الرجل من خير فإنما هو لنفسه. والصحيح أنها عامة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فال له رجل : عندي دينار ؟ قال : "أنفقه على نفسك" قال : عندي آخر ؟ قال : "أنفقه على عيالك" قال : عندي آخر ؟ قال : "أنفقه على ولدك" قال : عندي آخر ؟ قال : "تصدق به" فبدأ بالنفس والأهل والولد وجعل الصدقة بعد ذلك. وهو الأصل في الشرع.
الخامسة- قوله تعالى : {خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ} "خيرا" نصب بفعل مضمر عند سيبويه ؛ دل عليه "وأنفقوا" كأنه قال : ايتوا في الإنفاق خيرا لأنفسكم ، أو قدموا خيرا لأنفسكم من أموالكم. وهو عند الكسائي والقراء نعت لمصدر محذوف ؛ أي أنفقوا إنفاقا خيرا لأنفسكم. وهو عند أبي عبيدة خبر كان مضمرة ؛ أي يكن خيرا لكم. ومن جعل الخير المال فهو منصوب بـ " ـَأَنْفِقُوا ".
قوله تعالى : {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} تقدم الكلام فيه. وكذا {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} تقدم الكلام فيه.أيضاً في "البقرة" وسورة
(18/146)





"الحديد" {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} تقدم معنى الشكر في "البقرة". والحليم : الذي لا يعجل.
الآية : [18] {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
قوله تعالى : {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي ما غاب وحضر. وهو {الْعَزِيزُ} أي الغالب القاهر. فهو من صفات الأفعال ، ومنه قوله عز وجل : {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} أي من الله القاهر المحكم خالق الأشياء. وقال الخطابي : وقد يكون بمعنى نفاسة القدر ، يقال منه : عز يعز "بكسر العين" فيتناول معنى العزيز على هذا أنه لا يعادل شيء وأنه لا مثل له.والله اعلم. {الْحَكِيمِ} في تدبير خلقه. وقال ابن الأنباري : {الْحَكِيمِ} هو المحكم لخلق الأشياء ، صرف عن مفعل إلى فعيل ، ومنه قوله عز وجل : {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} معناه المحكم ، فصرف عن مفعل إلى فعيل. والله اعلم.
(18/147)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
كتاب الجامع لأحكام القرآن - تفسير سورة التغابن
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» كتاب الجامع لأحكام القرآن - تفسير سورة ص
» كتاب الجامع لأحكام القرآن - تفسير سورة ص
» كتاب الجامع لأحكام القرآن - تفسير سورة ص
» كتاب الجامع لأحكام القرآن - تفسير سورة ص
» كتاب الجامع لأحكام القرآن - تفسير سورة ص

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات ابناء الدويم :: المنتدى الإسلامي-
انتقل الى: